محمد الفاتح
1432م-1481م
ولد السلطان العثماني محمد بن مراد الثاني (محمد الفاتح) عام 1432م، ونشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ فحفظ القرآن، والأحاديث النبوية، ونهل من شتي مجالات العلم كالحساب والفلك والتاريخ والجغرافيا وألم بالعديد من اللغات المعاصرة، بعد أن عهد به أبوه لكبار العلماء والشيوخ آنذاك، فقد كان يُعده لتحمل مسئولية الجهاد، بعد أن توسم الجميع أن نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية ستتحقق على يديه، ولم يكتف السلطان مراد بتعليم ابنه فقط بل أشركه في عدة غزوات رغم صغر سنه، كما عهد إليه بإدارة إحدى الإمارات ليتدرب على إدارة شئون الدولة، بإشراف من كبار القادة والعلماء.
وفي عام 1451م توفي السلطان مراد وخلفه ابنه محمد؛ فأستبشر الروم بصغر سن السلطان الجديد وقلة خبرته، وظنوا أنه لن يملأ الفراغ الذي تركه أبوه، إلا أن السلطان الشاب فاجأ الجميع بالشروع في الإعداد للمهمة الكبرى - وفتح القسطنطينية ـ فكان من ذلك إشرافه على تدريب الجند ورفع كفاءتهم للدرجة القصوى، إضافة إلى تطويره لمعداته الحربية، بأن صب مدافع عملاقة لم يعرف مثلها آنذاك بحيث تكون قادرة على دك حصون القسطنطينية وإحداث فتحات كبيرة بها، إضافة إلى تشييده لسفن حربية قوية قادرة على المناورات البحرية ومحاصرة القسطنطينية، وبعد أن أتم السلطان جميع الاستعدادات اللازمة زحف بجيشه تجاه القسطنطينية وحاصروها مصوبين مدافعهم العملاقة تجاهها، وفي يوم 29 من مايو 1453م استطاعت قوات السلطان محمد في اقتحام أسوارالقسطنطينية، في واحدة من أكبر العمليات العسكرية آنذاك، ليكلل جميع المحاولات السابقة للقادة المسلمين لفتح القسطنطينية بالنجاح، ومنذ ذلك الوقت لقب بـ (محمد الفاتح)، بعد أن تم لمحمد الفاتح السيطرة على القسطنطينية حمد الله وقرر اتخاذها عاصمة له، وأطلق عليها اسم إسلام بول (استانبول)، وصفح عن أهلها وأمنهم على أعراضهم وأموالهم وسمح بعودة من فر منهم أثناء الحصار.
لم يكتف محمد الفاتح بفتح القسطنطينية وأراد ان يؤمن للإسلام ربوع أرحب ورقعة أوسع فانطلق مُستكملا فتوحاته فتم له فتح بلاد الصرب، والمورة، ورومانيا، وألبانيا، وبلاد البوسنة والهرسك، وحاول الاستيلاء على المجر، وتمكن من إنزال جنود بحريته بمدينة "أوترانت" جنوب إيطاليا بُغية اتخاذها قاعدة للزحف منها إلي باقي إيطاليا، وحاصر جزيرة رودس، فحفظ لدولته مكانتها بين الأمم.
كان لنشأة محمد الفاتح نشأة دينية وعلمية راقية، سبباً في اكتمال شخصيته، وتميزه فكرياً وعسكرياً، لذا لم ينصب اهتمامه بالفتوح العسكرية وفقط، بل امتد ليشمل الاهتمام بالعلم والعلماء والشعراء والفنانين فاستقدمهم إلى بلاطه وحفهم برعايته، كما اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته، وفاق أسلافه في هذا المجال بإدخال العديد من الإصلاحات في نظام التعليم وتحديث المناهج وتطويرها، واهتم بترجمة الكتب من اللغات الأخرى مثل اليونانية والفارسية واللاتينية ونقل ما بها من علوم إلى اللغة العربية، وأوقف على دور العلم أوقافاً كثيرة. اهتم أيضاً بالأمور المالية للدولة فحصر مواردها وحدد مصارفها فحال دون تبديدها، كما قام بتطوير الجيش بإمداده بالسفن والأسلحة الحديثة، وخصص مصانع لإمداد الجيش بالعتاد والزى العسكري، إضافة إلى تنظيمه للجند وتدوينهم في سجلات، ورفع رواتبهم، وتدريبهم على استخدام الأسلحة الحديثة.
بدى ورع محمد الفاتح والتزامه بالشريعة الإسلامية جلياً في مراقبته لولاته ومحاسبتهم على ما يصدر عنهم من تصرفات، ناهيك عن عزله لمن وجد منه عدم التزام أو تفريط، وكذا كان تسامحه مع أعداءه وإكرامه لأسراه، وعفوه عن سكان المدن المفتوحة، إضافة إلى إعماره للمدن بنائه للمساجد والمستشفيات والحمامات والأسواق والحدائق العامة، وعهد للعلماء بدعوة الأهالي إلى الإسلام؛ فدخل فيه خلق كثير، حتى غدت دولته وعاصمتها منارة علمية وإسلامية آنذاك.
اهتم محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وشجع عليهما، فأصبح التجار العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق وبطرقها البحرية والبرية، وشيد لذلك العديد من الجسور التي سهلت حركة التجارة في أرجاء الدولة؛ فعم الرخاء وأمن الناس. وفي شهر مايو عام 1481م وبعد رحلة فتوحات وإنجازات عظيمة؛ قضى السلطان المُجاهد بعد أن رفع راية دولة الإسلام خفاقة بين الأمم.