حمل كتاب ( ورد القلوب ) كاملا
ورد القلوب
شرح ورد الرابطة للإمام الشهيد حسن البنا
جمال ماضي
ورد القلوب
" اللهم إنك تعلم .. أن هذه القلوب قد .."
أولاً: صفات القلوب:
اجتمعت على محبتك.
والتقت على طاعتك.
وتوحدت على دعوتك.
وتعاهدت على نصرة شريعتك.
ثانياً: تربية القلوب:
فوثق اللهم رابطتها.
وأدم ودها.
وأهدها سبلها.
ثالثاً: زاد القلوب:
واملأها بنورك الذي لا يخبو.
واشرح صدورها بفيض الإيمان بك.
وجميل التوكل عليك.
عمل القلوب:
وأحيها بمعرفتك.
وأمتها على الشهادة في سبيلك.
إنك نعم المولى ونعم النصير.
تمهيد
لماذا هذه التقسيمات؟
بالتأمل فيما جعله الإمام حسن البنا ورداً تجتمع عليه القلوب في كل مساء بعد تدبر تلاوة الآيات الكريمات ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب)..
يتضح من الآيات أن المظاهر الدنيوية من ملك وجاه ومال وعزة بيد الله تعالى، وقدرته، وهيمنته ومن خلال التأمل في قدرة الله وصفاته وأسمائه ونعمه، تكون الحقيقة ناصعة، ويثبت المعنى الرباني من وراء الآيات، فالأمر أمر قلوب تتجه إلى ربها وترتقي في منازل التصعيد حتى تصل إلى القرب فتحظى بالأنس والبهجة والسرور والفرحة وذلك غاية خلقها ومقصود وجودها.
وعند بداية الغروب يكون مبدئ الليل، تراه القلوب فتفرح وتسعد لأنه لقاؤها مع ربها، مع محبوبها، ففي الليل إذا نام الناس، وسكن الكون وصمتت الحركات، ينزل الله إلى السماء الدنيا حيث اللقاء مع القلوب المتيقظة البصيرة، ولذا كان البدء بهذا الدعاء:
" اللهم إن هذا إقبال ليلك
وإدبار نهارك
وأصوات دعاتك
فاغفر لنا "
بهذه التهيئة للقلوب أراد الإمام البنا أن ينقل إلينا حاله مع ربه وسعادته وسرور قلبه، فلم تكن هذه الدعوات باختيارات عشوائية يخطها قلم كاتب، أو فكر مؤلف، وأحسب إن الإمام أراد بهذا الورد أن تكون الديمومة والاستمرار على دعوة الله تعالى مرتبطة بالقلوب وحركتها، وكيف تتلقى الحقيقة؟ وتودع فيها؟ ثم تثبت وتستقر ! ثم تستمر ويداوم عليها! وبهذا أراد أن يضمن للإخوان جميعاً أن يستمروا على دعوة الله تعالى، تحركهم الحقيقة ثابتين مستقرين، مستمرين مداومين، فقال رضي الله عنه مفتتحاً ورد القلوب:
" اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب "
<!--[if !supportLists]-->1- اللهم:<!--[endif]-->
هل تريد أن تعيش على الأرض وأنت في الجنة؟ هذا ما سأله السلف لأتباعه فقالوا جميعاً:
نعم، فأبلغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: حلقُ الذكر..
والقلوب تضطرب وتقلق ولا تهدأ إلا بسكينة من الله فتزداد إيمانا، وبمداومة الذكر يقذف الله في القلوب الطمأنينة فتقر دوماً، وتهدأ أبداً، فالسكينة جزء من الطمأنينة، لأنها وقتية أما الطمأنينة فهي دائمة ( ألا بذكر القلوب تطمئن القلوب).
والذاكرون هم السابقون الفائزون لمناجاتهم، فالمناجاة حياة مع الحبيب تعالى، لقد كان أحدهم يتهيأ ليسأل الله حاجته فيدخل في مناجاة ربه فتنسيه المناجاة حاجته، من لذتها وحلاوتها، وجلالها وجمالها، فيقضي الله حاجته دون أن يسأله إياها.
ولقد كان بدء الدعاء بكلمة (اللهم) بما فيها من فقر وذلة وانكسار وعبودية، فهي مفتاح المناجاة، وعنوان الذاكرين، وعلامة الخضوع لرب العالمين.
<!--[if !supportLists]-->2- إنك تعلم (أن هذه القلوب):<!--[endif]-->
من جمال الدعاء مع رب العالمين أن تدعو الله تعالى وقد أديت ما عليك، وأن تقدم عملك بين يدي دعائك، وتدعوه وأنت متيقن من الإجابة، فأراد الإمام البنا أن يقدم جهد القلوب مع ربها، وما اتصفت به من صفات تؤهلها لاختيار الله تعالى لها، لتصنع على عينه فقال:
(إنك تعلم) ( أن هذه القلوب قد) وعلى عادة الإمام البنا أن ينادي من الإخوان العاملين (الإخوان الصادقين) فيوجه إليهم رسائل خاصة في الفهم والتكوين والعمل، كذلك فهذه القلوب هي قلوب بعينها، وليست مختارة عشوائياً، وإنما هي التي حققت صفات معينة، ولذا جاءت هذه المؤكدات (أن) (هذه القلوب) (قد) ، لتكون منزلة لا يصل إليها إلا من قام بحقها من الإخوان الصادقين.
وليس معنى ذلك أن ورد القلوب يصلح لأناس ولا يصلح لغيرهم أو هو حجر على مجموعة بعينها، وإنما الأمر أمر تسابق في الخيرات ومسارعة في تحقيق الصفات، لأن الإسلام يفتح طريق السالكين إلى ربهم ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ، ولما كان الأمر يختص بالقلوب فكان أولى بالسالكين أن يسارعوا الخطى، فما أبدع التشمير والاجتهاد للوصول إلى رب العالمين، وهل يدندن الصالحون والصادقون إلا حول هذا المعنى ؟!
أولاً: صفات هذه القلوب
<!--[if !supportLists]-->1- اجتمعت على محبتك:<!--[endif]-->
هذا هو الاجتماع الذي لا يعرف توقفاً أو تعثراً، لأنه الاجتماع الموصول المستمر المتواصل، القائم على محبة الله تعالى، وذلك لأن المحبة هي أرقى منزلة من منازل السائرين إلى الله حيث تتحقق العبودية المحضة لله رب العالمين، وفي مشاهد هذه المنزلة أحلى وأبهج اجتماع حيث يتروح العابدون بنسيمها، لأنها قوت القلوب وقرة العيون وهي الحياة الحقيقية والنور والشفاء، بل واللذة الكاملة.
هذه المحبة هي سمة السالكين فالكتاب يعرف من عنوانه وكذلك الصادقون يعرفون بالمحبة، وهي النسبة بين العبد ربه، فالرب رب، والعبد خلق ليكون عبداً، ولا تتحقق العبودية إلا بالمحبة، وهي روح الإيمان والعمل، وإلا أصبح المؤمنون كجسد لا روح فيه وأعمالهم إذا خلت من الروح لم تصعد إلى السماء.
ولما كثر السالكون في طريق المحبة امتحنهم الله تعالى بقوله: ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فبين الله أن القضية ليست في أن يحبه المحبون، وإنما في أن يحبهم الله تعالى، وذلك باتباعهم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. فتراجع المدّعون وبقى المحبون فامتحنهم الله بقوله: ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمة).
فبقي المجاهدون الذين أعلمهم الله تعالى بأن أموالهم وأنفسهم ليست ملكاً لهم بل لله في قوله: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) فلما علموا أن سلعة الله غالية قالوا: ( والله لا نقيلك ولا نستقيلك) فوالله اجتماعهم على الله وفي الله وبالله، وكذلك حركاتهم وصمتهم، فأعمالهم إلى السماء صاعدة وإن ناموا على الفرش:
( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)..
فلا حاجز ولا حجاب.
ومن أجمع ما ذكره أبو بكر الكتاني قال: جرت مسألة في المحبة بمكة فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك. فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال:
عبد ذاهب عن نفسه
متصل بذكر ربه
قائم بأداء حقوقه
ناظر إليه بقلبه
فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله.
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين.
وصدق في المحبين قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً ؟ وتجيء في الأول
وفي اللغة:
(حَبَتُ الأسنان) أي بياضها وصفاؤها.
( حَبَبُ الماء) أي علوه وظهوره.
( حبَّ البعير) إذا برك لم يقم، أي اللزوم والثبات.
(حبة القلوب) أي لٌبُّ القلب وداخله.
(حبة من الحبوب) أي أصل الشيء ومادته.
ولقد علق الإمام ابن القيم على معنى المحبة في منظور اللغة بقول بديع: ( فإنها صفاء المودة وهيمان إرادات القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب، ولزومها لزاماً لا تفارقه، لإعطاء المحب محبوبه لُبّه، وأشرف ما عنده، وهو قلبه ..) المدارج/ج3.
فبالله عليك اجتماع قلوب على محبة الله تعالى بهذه الحقيقة وبهذه المعاني.. هل يتوقف أو تعثر أو يزول، إنه اجتماع ثابت مستمر، لازم مستقر، ورحم الله الإمام البنا وهو يبدأ بهذه الصفة في قلوب الإخوان كأساس في السلوك وارتقاء في القرب من الله تعالى.
<!--[if !supportLists]-->2- والتقت على طاعتك:<!--[endif]-->
أهل الطاعة بل قل أهل العبادة، التي هي غاية مرادهم، ما يزدادون إلا طلبًا من الله أن يعينهم ويوفقهم للطاعة، وهذا ما علمه رسول الله الحبيب صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: ( يا معاذ والله إني أحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
وأهل الطاعة هم أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها لله وأموالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، ولا يريدون من الناس جزاءاً ولا شكورا. وكذلك أعمالهم وعبادتهم وطاعتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه، ومن أجل ذلك كان ابتلاء الله للناس: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
وكان الفضيل بن عياض يقول: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، ويتلو قوله تعالى: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، وفي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد).
وأهل الطاعة هم الذين يعملون على مرضاة الرب في كل وقت وأفضل الطاعات عندهم في وقت الجهاد: الجهاد، والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في وقت إرشاد الناس: تعليمهم ودعوتهم، والأفضل في وقت الصلوات الخمس: المبادرة إلى أول الوقت والخروج إلى المسجد وصلاتها في جماعة والحرص على إقامتها كاملة .. وهكذا مع كل الطاعات: في تلاوة القرآن، في الحج، في العشر الآواخر من رمضان، في وقت مرض أخيك، في مخالطة الناس والتأثير فيهم بالدعوة، حتى يتحقق فيهم قول القائل: ( فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ..) أليس ذلك معنى الالتقاء الجميل على الطاعة.
وأهل الطاعة هم أهل الذلة والخضوع لله رب العالمين، ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ولأنهم عبيد إلهيته والناس جميعاً عبيد لربوبيته: ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فأوجب ذلك عليهم طاعة قلوبهم لله تعالى، فمن عطلها عطل الطاعة كلها، لأن القلب للجوارح كالملك، فإن قام بمهمته قام هو ورعيته، ومن ثم كان حرص الإمام البنا أن تكون هذه الصفة من صفات القلوب ( والتقت على طاعتك).
وربما كان للترتيب عند الإمام البنا فن حال، وفقه موقف، فبدأ بصيغة (الاجتماع على محبة الله) ثم ثني بصيغة (الالتقاء على طاعة الله) وذلك لأن المحبة لا تحقق إلا باتباع أمره وطاعته واجتناب نهيه وطاعته أيضاً فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة المحبة، ولهذا جعل الله تعالى اتباع رسوله علماً عليها وشاهداً لمن ادعاها فقال تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) مصداقاً لقوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
ودل ذلك أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله بطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما يقول تعالى:
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).
فمن قدم طاعة أحد من هؤلاء أو قوله أو مرضاته أو معاملته أو حكمه على طاعة الله ورسوله في قوله ومرضاته ومعاملته وحكمه، فخرج من دائرة: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
وهكذا كان للترتيب فن وفقه، وارتباط متداخل في الحكمة دقيق، فأهل طاعة الله وإن تناءت بهم الأقطار هم في التقاء لا يزول، وإن تباعدت بهم الديار فهم في التقاء لا يحول، يكفيهم أنهم قلوب التقت على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
<!--[if !supportLists]-->3- وتوحدت على دعوتك:<!--[endif]-->
المقصود بالدعوة التي نسبها الإمام الشهيد إلى الله تعالى هي رسالة الإسلام وأصحاب الرسالة هم هذه القلوب التي توحدت في فهمها للرسالة، وتلقيها وتصوراتهم عنها، ثم توحدت عملاً وتطبيقاً وممارسة للرسالة كما أنزلها الله تعالى، ثم توحدت سعياً وتشميراً وجهاداً في نشرها على ربوع الأرض والتبشير بها في العالمين، ولقد صدق ربعي بن عامر صاحب الرسالة وهو يرد على رستم القائد الفارسي حينما سأله: ما الذي جاء بكم؟ فقال: ( إن الله ابتعثنا لنخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). لقد لخص الإمام البنا عمل أصحاب الرسالة في تعاملهم مع الإسلام حينما قال: ( الفهم الدقيق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل)، فتعلمنا أن الاتحاد على دعوة الله تعالى تعني ثلاث دوائر:
الأولى: الفهم والتصور لرسالة الإسلام، ولقد جاءت رسائل الإمام في تبيين هذه الدائرة خير تبيين، ثم جاء الشارحون وهم يزيدون الأمر شرحاً ويطوفون حول تحقيق هدف الدائرة: الفهم الدقيق.
الدائرة الثانية: العمل والتطبيق والتكوين والتربية وفق هذه الرسالة، فإن توحد الفهم والتصور لا يكفي إذا انقطع عن ملاحمة العمل به وتطبيقه، وهنالك تكون البصيرة بالدعوة التي ينطلق بها أصحاب الرسالة.
الدائرة الثالثة: وهي دائرة التبشير بالرسالة ونشرها على ربوع العالمين والتبليغ عن رب العزة تعالى في عمل متواصل لا يعرف توقفاً وهنالك تكون الحركة الواعية العابدة لله تعالى تحقيقاً لقوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).
والمعنى: أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة.
أما عن حكمة الترتيب فله علاقة وثيقة بالصفتين السابقتين، قلوب بلغت القرب من ربها بالمحبة ثم التقت هذه القلوب على طاعة الله تعالى، فهو تهيئة ربانية لهذه القلوب لحمل الرسالة فهماً وعملاً وجهاداً، إنها الصناعة الربانية ( ولتصنع علي عيني)، ( أدبي ربي فأحسن تأديبي)، إن قلوبنا قد هيأها الله، وصنعها على عينه، ما أعظم ما شرفها الله به من حمل الرسالة والتبليغ عنه تعالى، فهي تحمل هذا الإرث النبوي ويكفيها بحمله تيهاً وفخراً، وتعمل عمل الأنبياء رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جاء سفير الروم يبحث عن قصره فقالوا له: هو النائم هناك تحت الشجرة ! فتساءل الرجل في دهشة: أين حرّاسه ؟ أين حُجّابه ؟ قالوا: ليس له حجّاب ولا حرّاس، فقال: ينبغي أن يكون نبياً !! فقالوا له: بل يعمل عمل الأنبياء ... فأصحاب الرسالة توحدت قلوبهم على عمل الأنبياء وكفى به اتحاداً لا ينفصل ولا يتأثر مهما كانت الأعاصير هادرة، والأمواج عاتية.
<!--[if !supportLists]-->4- وتعاهدت على نصرة شريعتك:<!--[endif]-->
إن هذه القلوب التي تهيئت من قبل ربها لمنزلة القرب منه، فكان اجتماعها على محبته، والتقاؤها على طاعته، وكانت صفاً متيناً فتوحدت على دعوته فهماً وعملاً ونشرا.. أعدها الله لدور الأنبياء وكان عملهم عمل الأنبياء، فهم المصلحون حين الغربة، وهم أهل الحق أمام كل باطل، وهم المبتعثون إلى الناس يرشدونهم وينذرونهم ويبشرونهم بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فكان العهد مع الله تعالى الذي هيأها وأعدها وصنعها وشرفها باختياره لحمل الرسالة والصدع بالحق، وكان أن تعاهدت هذه القلوب على عمل الأنبياء والثبات عليه، ألا وهو نصرة شريعة الله تعالى.
وإن كان حال أمتنا كما نرى، اجتماع الكفر في صف واحد ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).. وبمؤازرة من حكام ضعاف رضوا بالذلة وباعوا عقيدتهم وتخلوا عن دينهم، فأعلنوا جميعاً محاربة الإسلام، في صور مختلفة، إما إبادة وذبح وسحق وقتل للبلدان المسلمة في حرب ينزع فيها السلاح عن المسلمين وإما بحرب يقودها الحكام ضد شعوبهم ورموزها الإسلامية، كل ذلك في ظل مؤامرات مخططة محبكة للغزو الثقافي والفكري لإحداث خلل عقلي فيصنع إنسانٌ لا صلة له بتاريخه أو لغته أو دينه أو حضارته، أو نشر للانحلال والإباحية والإلحاد بوسائل متعددة وبشعارات زائفة أو طمس للهوية باسم تطوير التعليم ومحاربة الحجاب وتحرير المرأة من دينها، أو إثارة الفرقة والقطيعة على مستوى كل الدوائر سواء في الوطن الواحد أو المستوى العربي أو المستوى الإسلامي أو المستوى الإنساني العالمي، بنشر بدعة الإرهاب !! التي هم أول من يمارسونها بل ويجندون مؤسساتهم وللأسف في تنفيذ لعبة قذرة أشبه (بالعسكر والحرامية) التي يلهو بها الأطفال ويضحك عليها الكبار.. فمن يا ترى يضحك على حال أمتنا ؟!!
لقد كان مصطفى صادق الرافعي يتعجب قائلاً: ( كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين إذ يعملون ولكن بروح غير عاملة).
ماذا لو بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته هكذا حالها لقال : ( يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) ولتساءل صلى الله عليه وسلم ماذا فعلتم بشريعة ربكم، من ينصرها ويرفع لواءها؟ من يبايع على نصرة شريعته؟ من يبايع على الجهاد للتمكين لدينه؟ من يتعاهد على الاحتكام إلى قرآنه؟ .. بالأمس نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت بيعة الرضوان: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً).
ها هو الرسول ينادي هذه القلوب التي تهيئت وصنعها الله وتوحدت على دعوته ! فكان جوابها تعاهدنا على نصرة شريعتك يا ربنا !!
وهكذا ترتبط الصفات الأربع في تداخل دقيق وترتيب حكيم لتجمع صفات يعلمها الله في هذه القلوب التي انتمت لدعوة الإخوان المسلمين وتنتظر، كل غروب يدبر فيه النهار، ويقبل فيه الليل، لتجدد العهد مع ربها عز وجل (وتعاهدت على نصرة شريعتك).
يقول الإمام البنا بمناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في سبتمبر 1948م: ( اذكروا أيها الإخوان دائماً أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها في هذا العصر المادي المظلم بالشهوات والأهواء واجب الدفاع عن كلمات الله ورسالاته والمحافظة على أحكام شريعته ودعوة الإنسانية القائمة إلى الطريق المستقيم).
ثانياً: تربية القلوب:
ومن هنا يبدأ الدعاء لله تعالى ليأخذ بهذه القلوب في صناعة ربانية، وتربية إلهية، وهي تسلك طريق الأنبياء، وتعمل عملهم، وتمكن لرسالة الله في أرضه.
<!--[if !supportLists]-->1- فوثق اللهم رابطتها:<!--[endif]-->
في مفهوم الإمام البنا وهو يدعو بهذا الدعاء هو أحد أركان البيعة العشرة: "الأخوة " التي فسرها بقوله : ( أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها والأخوة أخت الإيمان والتفرق أخو الكفر، وأقل القوة قوة الوحدة ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر وأعلاه مرتبة الإيثار. (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والأخ الصادق يرى إخوانه أولى به من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)
وهكذا يجب أن نكون ... ).
وكان يقول:
دعوتنا تقوم على أركان ثلاثة:
<!--[if !supportLists]-->v الفهم الدقيق.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->v الإيمان العميق.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->v الحب الوثيق.<!--[endif]-->
وهذا ما جاء به الإسلام وعاش فيه الأوائل قال صلى الله عليه وسلم: ( المرء كثير بإخوانه) عاشها أبو أيوب السختياني رضي الله عنه فكان يقول: ( إذا بلغني موت أخ لي فكأنما سقط عضو مني).
أخاك أخاك إن من لا أخ له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وذلك لأن للأخوة لغة خاصة بها، لا يعرفها إلا من عاشها وتذوق حلاوتها وقد قيل في ذلك:
( إنه لا يضيق سمّ الخياط على متحابين ولا تسع الدنيا متباغضين)
ومما حفظناه:
(وامش ميلاً وعد مريضاً
وامش ميلين وأصلح بين اثنين
امش ثلاثة وزر أخاً في الله ..)
فما أروع جوها وما أجمل نسيمها.. وما أجلها من انصهار عضوين في كيان واحد، وامتزج نفسين في نموذج واحد، والتقاء روحين في شخصية واحدة، وهل تكونت اللبنات الأولى للمجتمع المسلم في المدينة إلا بها ؟
هل تكوّن القلب الواحد والشعور الواحد والأمل الواحد والألم الواحد إلا بها ؟
عن أنس قال:
( آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، وآخى بين عوف بن مالك وبين الصعب بن جثامة).
لقد كانت الأخوة هي الترنيمة التي تهنأ بها النفوس والواحة التي في ظلها ترتاح القلوب بعد عناء .. وهذا ما دفع بمحمد بن واسع إلى قوله:
( لم يبق من العيش إلا ثلاث:
<!--[if !supportLists]-->v الصلاة في جماعة.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->v وكفاف من معاش.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->v وأخ محسن العشرة)<!--[endif]-->
وأصبح المسلم بأخيه كالكف بالمعصم:
لا خير في الكف مقطوعة ولا خير في الساعد الأجذم
ورب أخ إخاء خير من أخ ولادة، ولذلك وضع الصالحون شروطاً للمؤاخاة، خاطبوا العقلاء وذوي الألباب ليحولوها إلى ممارسة وتطبيق.
فكان من نصائحهم:
أن تؤاخي من خالفك على الهوى وأعانك على الرأي.
أن تؤاخي من وافق سره علانيته، لأن خير الثناء ما كان على أفواه الأخيار.
ولقد أحسن العباس بن عبيد في قوله:
كم من أخ لم يلده أبوكا وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
يقول الشهيد سيد قطب في الظلال عن هذه الرابطة: ( إنها المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، معجزة تحول القلوب المتنافرة إلى كتلة متواصلة متآخية ذلول بعضها لبعض، محب بعضها لبعض متآلف بعضهم مع بعض ( ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ).
وهذه المعجزة تصنعها العقيدة، إنها حين تخالط القلوب تستميل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب التي تلين جاسيها وترفق حواشيها وتندى جفافها وتربط بينهما برباط وثيق عميق رقيق فإذا نظرة العين ولمسة اليد ونطق الجارحة وخفقة القلب ترانيم من التعارف والتعاطف والولاء والتناصر والسماحة والهوادة لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب.
<!--[if !supportLists]-->2- وأدم ودها:<!--[endif]-->
المودة في الإسلام رزق من الرحمن فإن رزقك الله مودة أخ فحافظ عليه وتمسك به:
فإن صد عنك أقبل عليه
وإن أبعد عنك ادن منه
وإن حرمك أبذل له
حتى يكون ركناً من أركانك.
فإن من أعظم العيب التلون في الوداد، فأف لذي الأخ:
يضاحكني كرها كيما أوده وتتبعني منه إذا غبت أسهم
فمن أعجز الناس من ظفر بالإخوان ثم لا يحافظ على ودادهم، وأضاع المودة التي هي ماء الحياة .. بأن يكون ذا لونين، وذا قلبين ولم يوافق سره علانيته، وقوله فعله، فلا خير في متآخين ينمو بينهم الخلل..
ومن هو ذو قلبين أما لقاؤه فحلو وأما غيبه فظنين
وهذه العلامات تبدو في سحابة المودة الصافية بوضوح وجلاء:
فالعين تنطق والأفواه ساكنة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
ولا خير فيمن:
يبادر بالسلام إذا التقيا وتحت ضلوعه قلب سقيم
فعلى العاقل أن يحافظ مهما كان على ماء مودة الإخوان أن تدوم .. وليس السبيل إليها في الاجتماع والمؤاكلة والمشاربة فحسب، بل يمكن اجتماع هذه الأسباب ولا يزداد المجتمعون بذلك مودة !! وإنما الأسباب كما بين ابن حبان:
( في القصد، وخفض الصوت، وقلة الإعجاب، ولزوم التواضع، وترك الخلاف، وعدم الإكثار على الإخوان بالأعمال فيملوا ويسأموا، لأن المرضع إذا كثر مصه ربما ضجرت أمه فتلقيه).
ولذا عليك .. عليك .. بالإخوان.. فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، خرج ابن مسعود يوماً على أصحابه فقال:
" أنتم جلاء حزني "
فصحبتهم سرور، ومجالستهم حياة، وإنهم لخير من كنز الذهب والفضة، يفنى الكنز وهم كنز لا يفنى ..
سأل إياس بن معاوية شيخاً: ما أفادك الدهر؟ قال: العلم به.
فقال إياس: فماذا رأيت أحمد ؟
قال: أن يبقى المرء أحدوثة حسنة بعده ..
ولقد .. عشناها
ولقد عشناها هذه الحلاوة، عشناها خلال التقوى الخاشعة:
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فعشناها بحراسة القلب عند إقباله وإدباره، وحركته وسكونه وعلمنا أن في فساده تكدر الأوقات وتنغص اللذات. فكم ذهب زينة الأخوة .. بفساد الأفئدة وخواء القلوب:
وإن أخاً لم يصف لله قلبه لفي وحشة من كل نظرة ناظر
" جالسوا التوابين، فإنهم أرق أفئدة "
فعلمنا أنه من رقة الأفئدة تبدأ المودة .. بل وتدوم ..
وقد عشناها هذه الأخوة كذلك بالبشاشة والبسمة، وبسط الوجه وانفراج الأسارير فكان:
أخو البشر محبوب على حسن بشره ولن يعدم البغضاء من كان عابساً
قيل لسعد بن الخمس: ما أبشّك ؟
قال: إنه يقوم عليّ برخيص
نعم ما يكلفه صعباً أن يبش في وجوه إخوانه وأحبابه.
عن حبيب بن أبي ثابت قال:
( من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم )
أخٌ مثل صفو الماء أما لقاؤه فبشر وأما وعده فجميل
عيّي عن الفحشاء، أما لسانه فعف، وأما طرفه فكليل
عشنا هذه الحلاوة، في ممشانا لله وإلى الله، ولقد علمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله أرسل رسولاً للأخ الذي زار أخاً .. لا لشيء .. إلا لأنه يحبه في الله .. فقال له الرسول:
( إني رسول الله إليك وإن الله تبارك وتعالى أحبك كما أحببته).
فأي جلال فوق هذا الجلال ؟ وأي كمال يفوق هذا الكمال ؟
تعرفك السماء .. يحبك الله .. يباهي بك الملائكة ... إن زرت أخاً تحبه فقط .. في الله.
عشناها كذلك بالتلذذ.. بالمؤانسة بالأخ.. وجميل المعاشرة.. فما كان إلا حسن الظن رائدنا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا).
وما كان إلا النظر إلى عيوبنا قبل النظر إلى عيب إخواننا:
وما خير من تخفي عليه عيوبه ويبدو له العيب الذي لأخيه
وما كان من معاتبة إلا عند الإساءة، وما كان من مغفرة عند الاعتذار.. يقول ابن سيرين: فما أروع ما كان بين أخوين قد تغير ودهما فقال الأول:
ما لي أراك كالمعرض عني؟
قال: بلغني عنك شيء كرهته.
فقال الأول: إذاً لا أبالي.
قال: ولم ؟
فقال: لأنه إن كان ذنباً غفرته، وإن كان باطلاً لم تقبله.. ثم عاد الاثنان إلى المؤانسة وسحرها والأخوة وجمالها.. ويا لله حين يقول أخ لأخيه:
مثلي هفا ومثلك عفا
فيجيبه أخوه:
مثلك اعتذر ومثلي اغتفر..
وينتهي ما لم يبدأ .. لتدوم مودتهما ..
عشناها من خلال تربية ربانية اختارنا الله بفضله ونعمته لنكون في صفها، فمن المعاني الأساسية التي رُبي عليها (الإخوان المسلمون) الأخوة في الله ..
فالاسم لا يحمل إلا هذا المعنى .. الإخوان..
ومن ثم جعلها مرشدنا – الإمام الشهيد- أحد أركان البيعة العشرة.
وفيما بلغنا أن الإمام رحمه الله كان يبدأ أحاديث الثلاثاء بالمركز العام للجماعة بترغيب ساحر، فتقوى أواصر الحب بين الإخوان، يؤيد ذلك بالنصوص ووقائع السلف. وكان الإخوان يطلقون عليها: " عاطفة الثلاثاء ".
وكان من ثمرات التربية الإخوانية هذا الانصهار العجيب اليوم، في دار الأرض حيث تجتمع النبضات الحية في عالم رحب لا يعترف بحاجز أو فارق، وتلتقي عبر الأثير أصدق نبرة في الوجود: " إني لأحبك في الله ".
والتي كلما قويت دب الرعب في قلوب الأعداء، فقديماً حين ركب المسلمون البحر في جهاد ويسقط من أحدهم إناؤه فيصرخ: إخوتاه.. إنائي إنائي!! فيغوص الجميع في الماء بحثاً عن إناء أخيهم.. فيدب الرعب في قلوب الروم ويقولون في شدة فزع:
انظروا إليهم كيف يصنعون حينما يسقط إناء أحدهم.. فكيف يصنعون بنا حين نقتل أحدهم؟!! ثم فروا .. كما يفرون اليوم أمام جبل الأخوة .. فبعد أن استعملوا كافة أسلحتهم، وجدوا أن الإخوان: في النفي تغريد.. وفي السجن تأليف.. وفي السحل تنظيم .. في السلم عاطفة وإخاء .. وفي الجد صف وجهاد..
وهكذا كان الإخوان ولا يزالون.
<!--[if !supportLists]-->3- واهدها سبلها:<!--[endif]-->
يقول تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
فهل بتوثيق الرابطة وإدامة المودة تضمن القلوب كمال التربية وجلال الصناعة الربانية؟ لا بد أن تحاط بسياج متين ركين يضمن لها الاستمرار والثبات، فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإن حصل البيان ترتب عليه هداية التوفيق، وجعل الإيمان في القلب وثباته وتحبيبه وتزيينه في القلب، وجعله مؤثراً له راضياً به راغباً فيه بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك والثبات عليه إلى الوفاة، ومن ثم كان سؤال الرب الهداية هو سؤال التثبيت والدوام بعد استكمال هذه الأمور.
والهداية لذلك بيد الله وحده : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، وفي القلوب أخص حيث أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء، وما أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وإذا نادى ربه قال: يا مقلب القلوب.
وقد ربط الله تعالى بين حاصل الهداية والسعادة بأنهما متلازمان، كما أن الضلال والشقاء متلازمان يقول تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) . ويقول تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).
وللمتأمل في آيات الهداية، يجد كم هي سعادة أولئك الذين كتب الله لهم الهداية وهم في علو دائم، فما وردت كلمة الهدى إلا بعد (على) كما في قوله تعالى:
( أولئك على هدى من ربهم ) وفي قوله تعالى : ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
أما الضلال فجاء بعد (في) كما أيضاً في قوله تعالى:
( وإنهم لفي شك منه مريب).
وكما يقول الإمام ابن القيم في أن الحكمة من ذلك للمتأمل البصير تكون: (إن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلى الكبير، وطريق الضلال تأخذ سُفلاً، هاوية بسالكها في أسفل سافلين) المدارج ج1
ثم أن الهداية لا تتحقق إلى في ظل جماعة، ولذلك كان الترتيب بعد توثيق الرابطة وإدامة المودة، كما في قوله تعالى:
(اهدنا الصراط المستقيم)، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، (اللهم اهدني فيمن هديت) أي أدخلني هذه الزمرة واجعلني رفيقاً لهم ومعهم.
فإذا كتب الله الهداية أوجب ذلك هداية أخرى على هدايته قال الله تعالى: ( والذين اهتدوا زادهم هدى) فهداهم أولاً فاهتدوا فزادهم هدى ثانيا ..
ثالثاً: زاد القلوب
إجمالاً:
<!--[if !supportLists]-->1. واملأها بنورك الذي لا يخبو.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->2. واشرح صدورها بفيض الإيمان بك.<!--[endif]-->
<!--[if !supportLists]-->3. وجميل التوكل عليك.<!--[endif]-->
تفصيلاً:
1- واملأها بنورك الذي لا يخبو:
إن القلب يحتاج إلى زاد ليواصل مسيره إلى ربه، وقلب الإخوان في أمس الحاجة إلى حفظ هذا الزاد، وأول الزاد أن يقذف الله نوره في هذه القلوب فتنتبه فلا تنام، وتستنير فلا تغفل، ثم يقذف فيها نوراً من لدنه فتؤتى البصيرة، فترى رأي العين فتفهم كتاب الله ودينه وتتفجر ينابيع من المعارف لا تنال بكسب ولا دراسة، ثم يقذف نوراً في هذه القلوب فتفرق بين الحق والباطل وبين الصادق والكاذب قال تعالى: ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين) ، يقذف نور الحكمة في هذه القلوب: فتفعل منا ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي، يقول تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
ثم يقذف الله نوراً يقع في القلوب، يريهم أنهم واقفون بين يدي ربهم عز وجل، فيستحون منه في خلواتهم وجلواتهم فيرزقهم الله تعالى عند ذلك: دوام المراقبة للرقيب.
وما زالت هذه القلوب تتقلب في أنوار الله تعالى بحيث لا يبقى فيها إلا الله الواحد القهار فتفيض أنوار من المعرفة والصدق والإخلاص والمحبة من هذه القلوب كما يفيض نور الشمس عن جرمها، حتى تصل إلى القرب من ربها.
أرأيت أن نور الله لا يخبو أبداً، يرقى بالقلوب من لحظة انتباهها إلى لحظة قربها من ربها، ولذلك كان أول الزاد هذا الصفاء في القلوب إلى الارتقاء والتصعيد في أنوار الله تعالى من منزلة إلى أخرى.
<!--[if !supportLists]-->3- واشرح صدورها بفيض الإيمان بك:<!--[endif]-->
ومما كان عليه اجتماع السلف: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن المعصية تأكل الإيمان ولها آثارها النكدة على صاحبها وكذلك الإيمان يزداد في القلوب وتظهر آثاره على الأبدان والجوارح يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، ويقول تعالى: ُقلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ).
وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثار محبوبة لذيذة طيبة، لذاتها تفوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة يقول ابن عباس: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.
وكلما زادت الطاعات فاض الله بزيادة الإيمان مع إيمان القلوب فتنشرح الصدور وتنبسط، فإذا بالقلوب تفرح بربها، ولا ترفع رأسها إليه حياء ًوخجلاً من الله، قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء فهذا سجود القلب. وإذا سجد القلب سجدت معه جميع الجوارح.
وبهذا الوصف تنشرح الصدور وإن كان البدن سقيماً، تنشرح الصدور وإن كان البدن سجيناً مكبلاً، تنشرح الصدور وإن كان البدن متأوهاً متعذباً متألما.. فاشرح يا ربنا صدورنا بفيض الإيمان بك.
<!--[if !supportLists]-->4- وجميل التوكل عليك:<!--[endif]-->
يقول تعالى على لسان أنبيائه: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ )، والتوكل هو عمل الأنبياء القلبي، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد r حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
وقد اختار الإمام البنا أن يدعو الله تعالى ( بجميل التوكل عليك) وذلك لأن التوكل أنواع: منها توكل في استقامة في النفس ومنها توكل في حفظ الحال مع الله بعيداً عن الناس، ومنها توكل على الله في مقصود يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو طلب زوجة أو ولد، وقالوا إن أفضل التوكل ما كان في الدوائر الثلاثة: واجب الحق وواجب الناس وواجب النفس.
أما أوسعه وأنفعه وهو ما يعرف بجميل التوكل: فهو ما كان في التأثير في الآخرين في مصلحة دينية أو دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض وهذا توكل ورثتهم، وهو ما قصده الإمام البنا في دعائه ( وجميل التوكل).
أما (عليك) فكما قيل: (من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله) لقوله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
رابعاً: عمل القلوب
1- وأحيها بمعرفتك:
إن الحياة لا تكون إلا بمعرفة الله عز وجل: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) ويقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
والحياة بمعرفة الله تعنى تحقيق كل المعاني السابقة فيضمن الأخ حياة سعيدة رغدة، هي هي التي كان يتلذذ بها الأصحاب رضوان الله عليهم: إما النصر والسعادة وإما الشهادة والسعادة، عبارة وجيزة ولكنها كانت ملخصاً لحياة المؤمن وعمل قلبه في الحياة.
وقيل في المعرفة أقوال كثيرة ولكن جُماعها كانت في عبارة السلف: مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست: (من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة).
واتفق العلماء أن (الحياة الطيبة) في الآيات هي حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها:
إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.
وقال غيره:
إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
هذه حياة الفتى فإن فقدت ففقده للحياة أليق به
2- وأمتها على الشهادة في سبيلك:
هل الموت نهاية أم مرحلة؟ .. إن خلاص الروح من سجن البدن هو حياتها فإن من ورائه روحاً وريحاناً وراحة، قال بعض العارفين: لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك، قال تعالى: (َأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)، ففيها مرافقته الرفيق الأعلى، ومفارقة الرفيق المؤذي النكد، ومخالطة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، في جوار الرب الرحمن الرحيم، وكما يقول الرافعي في وحي القلم: (إن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها).
ومن ثم اختار الأصحاب رضوان الله عليهم موتتهم فكانوا يلبون داعي الجهاد، ويبلون في الوغى، ويبتسمون للموت إن جاء، فقد صنعوا موتتهم، كما أطلق عليها الإمام البنا في مجلة النذير: صناعة الموت، ومن كثرة اهتمامه بالحديث عن الموت، اعتبره صناعة على الأمة أن تحسنها لأن الموت ثمن الحياة، وفي موضع آخر نظر إليه باعتباره فناً فيقول تحت عنوان (فن الموت): الموت فن، وفن جميل على مرارته، بل لعله أجمل الفنون إذا تناولته يد الفنان الماهر، وقد عرضه القرآن على المؤمنين عرضاً جعلهم يحرصون عليه ويحبونه حب غيرهم للحياة، ويكفي أن يترجم الإمام هذا الكلام إلى عمل حقيقي فيواجه الموت ولا يتخلف عن داعي الدعوة والعمل والجهاد، فيكون أول شهيد للدعوة في عصر الصحوة، ليرسم قدوة ويكون نبراساً للأجيال، وعلى القلوب أن تعي الدرس وتدرك العظة، يقول الإمام مخاطباً الإخوان: " أيها الإخوان، إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الحياة العزيزة، فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله".
لقد كانت تأتي أحدهم الضربة فيقول: فزت ورب الكعبة، وهذا بلال يعالج سكرات الموت فتأتيه ابنته قائلة: واكرباه، فيقول لها: بل قولي: واطرباه غداً ألقى الأحبة محمدا ًوصحبة.. فقد فازوا قبل الفوز بصناعة الموت، وبالموت بالشهادة في سبيل الله تبدأ الحياة الحقيقية التي أرادها الإمام البنا في دعائه لجموع الإخوان، أن يتمسكوا بها ويعملوا من أجلها، فمن طيب هذه الحياة بل ولذاتها قول الرسول r (ما من نفس تموت –لها عند الله خير- يسرها أن ترجع إلى الدنيا، وأن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع إلى الدنيا، لما يرى من كرامة الله له)، يعني ليقتل فيه مرة أخرى.
هذه القلوب الحية المتيقظة هي التي حملت رسالة الإسلام تبلغها في الآفاق فمنذ عهد النبي r وهي تبحث عن أمر من اثنين، إما النصر والفوز ونشر دين الله وسعادة البشرية كلها وإما الاستشهاد والموت في سبيل الله وهو الفوز الذي به ينعمون ويحبون الحياة الحقيقية، يقول تعالى: (َلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
ولذلك كان من شعار الإخوان (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
وأخيراً
خاتمة ورد القلوب
سأبدأ بمقولة كتبها مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم: ( ولا يزال دائماً يُقال للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك!).
وفي القلب سر الإنسان، وحقيقة العبودية، ومكمن الحياة الصافية، ومنه تخرج للأرض المعاني السماوية، بل أن الفقيه من لم ينطق نطق الكتب بل هو قوة تجعله روحاً تتعلق به الأرواح: فهو في اعتبارها كأنه آت من الجنة منذ قريب، راجع إليها بعد قريب، وما ذلك إلا من قلبه، وبالقلب يتحول الإنسان إلى شباب دائم من نور ساطع دائم، والشباب هو القوة فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما لا تملؤه في أوله، وبحياة القلوب يصبح الجسد جداراً بين النفس وبين الدنيا، يأتمر بأمر القلب، فالإيمان المتمكن من القلب، الباعث على الطمأنينة والدافع إلى البشاشة والرضا، يصبح عقلاً ثانيًا مع العقل، فإذا ابتلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش العقل، برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسده وجسمه حتى يفيق العقل الأول. (الرافعي – وحي القلم2)
وحركة الإنسان في الوجود، هي حركة قلبه في الأصل فإن رأى الله تعالى، وهو الناظر إلى القلوب، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن علم فيها صدقاً وإقبالاً ومحبة وطاعة وجهاداً وعهدا ًعلى نصرة دينه، تعهد هذه القلوب بالتربية والصناعة، والزاد والقوت، لتقوم بعملها وتضمن السعادة الحقيقية التي ضل العالمون عن تحقيها لبعدهم عن ربهم ..
وهذا ما أراده الإمام البنا فقد جاءت صفات القلوب بهذه الأفعال:
(اجتمعت) (التقت) (توحدت) (تعاهدت) .. وأنت تعلم بهذه القلوب (بصدقها وعزمها وإرادتها ومحبتها وثقتها وبعملها وبفعلها وبإخلاصها) فكن لها يا حنان يا منان ( بالتربية والزاد) ووفقها بقدرتك إلى (عملها) إنك نعم المولى ونعم المصير، ولذلك فكانت الأفعال التالية (أفعال دعاء): ( وثق – أدم- اشرح- املأها- أحيها- أمتها) فلو قلنا أن الأمر أمران: أمر عليك تحقيقه فإن حصلته كان الأمر الثاني: أن يستجيب الله لدعائك وإلحاحك وحاجتك بما يحقق غاية وجودك ومقصودك من العبودية المحضة لله رب العالمين.
والأمر الأول الذي أجمله الإمام البنا أن يتعهد جموع الإخوان قلوبهم، فحركتهم في الوجود إن خلت من هذا المعنى فهي حركة لا روح فيها، ولا تصعد إلى السماء، ولا ينظر الله إليها، ولا يوفقها، ولا يحقق مقصودها، حركة فارغة جاهلة.
فيا إخوان: إلى ..
الاجتماع على محبة الله والالتقاء على طاعته والتوحد على دعوته والتعاهد على نصرة شريعته.
وما أعظمها من صفات، وما أشقها وأسهلها في آن واحد، فإن بعد العسر يسرا، وما أجلها وما أشرفها وما أحلاها من صفات، في عصر حوصر بصفات الرذيلة والقبح والضلال لطمس القلوب، والعمل على إظلامها وسوادها فلا تنتبه وتسبح في الغفلة، ولا تتيقظ وتغط في سبات عميق، ولا تحيا وتموت في الظلمات، فتشفى وتتنكب، وليس من أجل الشقاء خُلقت أو التنكب وُجدت.
وأنت بذلك تعرض نفسك لتكون في زمرة اختارها الله بذاته ويصنعها على عينه، يوثق رابطتها وتدوم مودتها بيديه تعالى، ويهديها سبلها فيلحق صاحب القلب الصادق بأعز رابطة أوثقها في الوجود، غايتها الله، وقدوتها الرسول، ودستورها القرآن، وسبيلها الجهاد، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها، لا يهيمن عليها بشر، ولا تحركها قوة أرضية ضائعة، وإن رموها بالسهام، وحاصروها بالدمار، فلن يستطيعوا النيل منها فالمدافع عنها هو الله .. (َمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) وإن يوماً انكسر منها شيء ( فالحجر الصّلد إذا ترضرضت منه قطعة كانت دليلاً يكشف للعين أن جميعه حجر صلد ) وحي القلم.
فبهذه التربية القلبية تنهار أعمال الخصوم مهما تنوعوا، وتتلاشى مكائدهم مهما توزعوا.
وأما زادها فكله نور على نور، وفيض من الإيمان بربها، وجميل التوكل، تنشرح صدورها بأحلى زاد كله من رب السموات والأرض، إنها لا تعرف إلا ربها، لا تلجأ إلى بشر، ولا تستعين بسوى رب الناس، فالله ملاذها وغياثها وعياذها، تنظر إلى مصارع الجبابرة وقد ذلت رقابهم، وتتأمل في اندحار الطواغيت وقد خضعت أعناقهم، وتنظر من علٍ بهدى الله وهي في عُلو دائم إلى العلي الكبير، هذه القلوب بهذا الزاد وبهذه التربية تتهيء من الله للقيام بعملها الذي يتلخص في عبارتين: حياة في معرفة الله أو موت بشهادة في سبيل الله. ولما كانت الحياة والموت بيد الله تعالى، فكان دعا