قراقوش.. المظلوم حيّاً وميتاً
عبدالله بن علي العسكر
إنّ من قرأ التاريخ عامة والعربي خاصة، وجد عبرة وعظة في حياته، كما أنّ من قرأه بتمعُّن وتجرُّد وجد أنّ هناك شخصيات ظُلمت من المؤرِّخين تارة ومن الرُّواة تارة أخرى، ومصدر الظلم من المؤرِّخين، هو أنّ المؤرِّخين لم يكتبوا لهذه الشخصيات أثناء وجودها أو بناءً على مقابلتها، أو أنّ بعضهم وإنْ كتب عن هذه الشخصية فقد كتب عن حقد في قلبه، إمّا لخلاف مذهبي أو خلاف عقدي أو لمخالفته سياسياً، فصبّ جام غضبه على هذه الشخصية المرموقة للحط من قدرها أو لإضعاف شأنها، وأتى من بعده ونقل عنه، كما نقل بعض المؤرِّخين عن الحكواتيين في سيرة (هارون الرشيد) - رحمه الله -، فدس بعضهم في سيرته ما ليس منها، وإن كنا لا نجزم له ولا لغيره بالعصمة، إلاّ أنّه قال فيه المنصفون:
فمن يطلب لقاءك أو يرده
ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وقد يأتي ظلم الشخصية من المؤرِّخين والرواة من جهة مقابلة وذلك بكيل المديح الزائد والوصف العجيب لقوة ذلك الشخصية أو طوله أو أي صفة فيه حتى جعلوا منه شخصية خرافية، وذلك لوهم توهّمه أحدهم ونقل عنه من بعده، ولا غرو فإنّ هذه صفة تكاد في العرب بشيء أوسع، فلقد ذكر العالم النحرير عبد الرحمن بن خلدون في كتابه المسمى بالمقدمة حينما تكلم عن قوم عاد وثمود فقال:
(واعلم أنّ تلك الأفعال للأقدمين إنّما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها، فبذلك شيّدت تلك الهياكل والمصانع، ولا تتوهّم ما تتوهّمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها، فليس بين البشر في ذلك كبير بون، كما تجد بين الهياكل والآثار، ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه، وسطّروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج بن عنق رجل من الكنعانيين الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس)(1).
ولعلِّي مما تقدّم توصّلت إلى ما أردت العرض له وهو عنوان هذا المقال، فإنني وإلى وقت قريب أعرف أنّ ( قراقوش) شخص غبي مضيع لأمانته، فقد يشبه فيما سمعناه من الحكايات (كهبنقه) أو (باقل)، إلى أن قرأت كتاباً للأستاذ صالح بن محمد الجاسر، ألّفه عن شخصية (قراقوش) فأزال الغمامة التي كانت على عيني.
فلقد حوى الكتاب مائة وتسعاً وعشرين صفحة، تضمّن مقدمة ومدخلاً للموضوع، بين فيهما سبب تأليفه لهذا الكتاب وهو أنه ما يسمع عنه من فكاهة عند العرب كمثل (جحا، أشعب، الكندي) وأنّه دهش حينما وجد أمهات كتب السير والتراجم تنفي عنه كلّ الصفات السيئة التي اتهم بها وتجعل منه رجلاً مخلصاً وأميناً وأنّه كان ساعد صلاح الدين الأيوبي الأيمن في واحدة من أخطر الفترات التي مرت على الأُمّة الإسلامية، ثم قسّم الكتاب إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول (بهاء الدين قراقوش الخادم الأمين) ذكر فيه عن المصادر: أنّ قراقوش فتى رومي خصي أبيض وُلد في بلاد آسيا - الأناضول - عاش فيها فترة طفولته ثم في ظروف غامضة اتصل هذا الفتى بأسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، وفي دمشق عاش قراقوش في خدمة سيده أسد الدين شيركوه، وأصبح يُعرف بأبي سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي وتلقّب ببهاء الدين، فلما توفي أسد الدين شيركوه عام 564هـ التحق قراقوش بخدمة صلاح الدين الأيوبي فانصقلت مواهبه الإدارية والعسكرية وحاز على ثقة صلاح الدين، وقد بلغ إعجاب صلاح الدين بقراقوش أنّ جعله بعد نيله الوزارة، مدبراً أمور القصر الفاطمي.
ولقد بيّن المؤلف بعد ذلك أنّ صلاح الدين لما استولى على عكا سنة 583هـ رأى أنّها مدينة متخرمة وبيوتها متفرقة، فلم ير من يتولى مهمة تعمير عكا وتسويرها وتدبير أمورها إلاّ قراقوش فيصف العماد الصفهاني ذلك وهو معاصر لصلاح الدين ويذكر خطاب صلاح الدين الأيوبي لقراقوش (ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطاب الملم، غير الشهم الماضي السهم والمضيء الفهم، الهمام المحرب النقاب المجرب، المهذب اللوذعي، المرجب الألمعي الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي بتذليل الجوامح وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلحل بهاء الدين قراقوش، الذي يكفل جيشه بما لا تكفل به الجيوش).
واستمر قراقوش بالبناء، حتى استطاع الفرنج السيطرة على عكا في 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ فأخذ أسيراً مع الأسرى، حتى فداه صلاح الدين بعشرة آلاف دينار وقيل بستين ألف دينار، كما ذكر ابن تغري بردي.
وفي سنة 572هـ اختار صلاح الدين موقعاً في جبل المقطم يشرف على القاهرة وأمر بهاء الدين قراقوش أن يبني قلعة حصينة فوق رابية من روابي المقطم، وقد نقل المؤلِّف عن المقريزي أنّ من أعمال قراقوش بناء قناطر الجيزة التي وصفها المؤرِّخون بأنّها من عجائب البنيان ومن أعمال الجبارين وهي نيف وأربعون قنطرة.
وقد ذكر المؤلف أنّه بعد وفاة صلاح الدين أنّ قراقوش أصبح نائباً للملك العزيز على القاهرة، وكان الملك العزيز قبل وفاته قد أوصى لابنه محمد المنصور بالملك وعمره تسع سنين وأوصى بالإشراف عليه لبهاء الدين قراقوش، كما ذكر ذلك ابن خلكان، فاستمر على ذلك حتى توفي في مستهل رجب سنة 597هـ بالقاهرة بعد أن خدم صلاح الدين وابنيه أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، وكان آخر عمل قام به تجديد بناء جامع قيدان خارج القاهرة في محرم سنة 597هـ كما جدد حوض السبيل الذي فيه.
أمّا في الفصل الثاني من الكتاب، فقد تطرّق إلى الأسباب التي جعلت الحكايات المشوّهة تلصق بشخصية قراقوش، وبيّن أنّ ذلك بسبب ما ألّفه أحد أقران قراقوش وهو: ابن مماتي في ذلك الكتاب المسمّى (الفاشوش في أحكام قراقوش) الذي نال فيه من قراقوش، وذلك لما يكنّه من حسد وحقد على قراقوش، لأنّه يرى أنّه أجدر من قراقوش لدى صلاح الدين، مما لقي رواجاً خاصة بين العامة الذين تداولوه وتناقلوا حكاياته، حتى صار اسم قراقوش مرادفاً للأحكام الجائرة والغباء والجهل والظلم، غير مدركين أنّها تنسب إلى رجل كان له دور كبير فيما تحقق على يدي صلاح الدين من إنجازات، أمّا ما سطّره المؤرِّخون المنصفون الثقاة عن مآثر هذا الرجل فقد نُسي، واكتفى الناس بما رسمه له ابن مماتي من سيرة سيئة يصعب محوها، ثم بحث المؤلِّف عن الأسباب التي جعلت ابن مماتي يؤِّلف هذا الكتاب ويبالغ في التشويه في سمعة قراقوش، وتوصّل إلى أنّه إضافة إلى حسد الأقران، يرى بعض الباحثين أنّ هذا الكتاب كان أثراً لأحداث سياسية تمثّلت في القضاء على الدولة الفاطمية التي كانت متسامحة مع النصارى الذين كان ابن مماتي وأُسرته ينتمون إليهم قبل أن يسلموا في زمن صلاح الدين في ظروف تدعو إلى الشك، ويذهب إلى هذا الرأي المستشرق الفرنسي بول كازانوفا الذي يصف كتاب الفاشوش بأنّه (يعتبر أثراً لحادث خطير، هو سقوط الفاطميين وأنّه يعتبر المظهر الأخير لبغض مصر وأهلها لكلِّ فاتح لبلادهم) إضافة إلى قيام قراقوش بتسخير الآلاف من الأسرى الصليبيين لتنفيذ الأعمال العمرانية التي كلفه صلاح الدين بها في مصر وما تطلبه ذلك من قوة وصرامة شديدة بسبب ظروف الحرب التي تعيشها البلاد آنذاك، إضافة إلى أنّ اتصاف قراقوش بالشدة والصرامة انعكس على تعامله مع الشعراء والأدباء وهم يمثلون رجال الإعلام في ذلك الوقت فكان تشويه سيرته جزاء عدم إحسانه التعامل معهم، ثم استعرض المؤلِّف حكايات (الفاشوش في أحكام قراقوش) وبيّن أنّها صيغت بأسلوب عامي ركيك أراد فيه ابن مماتي محاكاة العامة ليضمن لحكاياته الرواج والانتشار، وأنّ الناس لو محصوها في هذا الوقت لأدركوا أنّها لا يمكن أن تصدر عن رجل سوي فكيف برجل كان له دور مهم وبارز في الدفاع عن البلاد الإسلامية في وقت عصيب، ثم سرد المؤلِّف عشرين حكاية وردت في كتابه الفاشوش وبيّن ملحوظاته عليها:
1 - وجود تشابه كبير بين بعض الحكايات المنسوبة لقراقوش وبين ما يتداوله الناس من حكايات تنسب إلى جحا.
2 - تناقض بعض الحكايات مع ما اتفق عليه المؤرِّخون عن قراقوش ومنها حكاية تتحدث عن ابن لقراقوش مع أنّ المؤرِّخين مجمعون على أنّه خصي.
3 - أنّ ابن مماتي أقحم النصارى في بعض حكاياته وجعلهم الأذكى والأقوى والقادرين على الإنقاذ.
4 - يبدأ ابن مماتي حكاياته بكلمة حكي أو يحكى أنّ.
أمّا في الفصل الثالث فبيّن المؤلِّف كلام المؤرِّخين الثقات عن قراقوش ونقل كلام ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان وكلام العماد الأصفهاني (الفتح القسي في الفتح القدسي) ووصفه لقراقوش بأنّه قائد الجيوش.
ونقل كلاماً لابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب ضمن وفيات سنة 597هـ وقال عنه : (قراقوش الأمير الكبير وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لما سلم إليه عكا وغيرها). كما أنّه نقل عن أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) في مواضع منها : (وفيها توفي قراقوش بن عبد الله الأسدي المنسوب إليه حارة بهاء الدين بالقاهرة داخل باب الفتوح) إلى آخره وشمس الدين الذهبي في كتابه العبر في خبر من غبر، وشهاب الدين أبو شامة المقدس في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وكل هؤلاء المؤرِّخون الجهابزة كتبوا سيرته بصدق ودافعوا عنه مما ألصق به من حكايات مشبوهة.
وبعد أيّها القارئ الكريم فلقد أجاد المؤلِّف صالح محمد الجاسر في كتابه (قراقوش المظلوم حياً وميتاً) وفتح الطريق أمام المؤرِّخين والباحثين للحذو حذوه في تتبُّع التاريخ وتمييز صحيحه من سقيمه، وإنصاف الشخصيات التي لفق عليها بعض المغرضين خرافات وحكايات لا يصدِّقها من عنده أدنى عقل أو بصيرة في العالم بقصد تشويه المسلمين والعرب، وإظهارهم بأنّهم سذّج لا يقدرون على إدارة حكمهم، وفّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
اللهم ارحمنا برحمتك